اضطراب ما بعد الصدمة | كيف تتعامل مع الصدمة النفسية؟
هل عانيت بعض الأعراض المربكة إثر التعرض لصدمة سابقًا؟ الأرق.. الانغماس في ذكريات الحدث والشعور كأنك تعيشه مرارًا وتكرارًا أو ربما عدم الشعور بأي شيء كليًا والانفصال عن الحدث تمامًا، هذه الأعراض تمثل ما يُعرف باضطراب ما بعد الصدمة.
في هذا المقال نتعرف إلى ماهية هذا الاضطراب وأسبابه وأعراضه، ومعرفة كيف تحدث الصدمة النفسية وكيف تُنشأ تغيرات في أهم مراكز المخ، وصولًا للخطوات الأساسية للعلاج.
تعريف اضطراب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder
اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) هو اضطراب قد يحدث لدى الأشخاص الذين عانوا أو شهدوا حدثًا صادمًا أو سلسلة من الأحداث والظروف المرعبة سواءً على الناحية الجسدية مثل: الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي، التعنيف الأسري، التعرض للسرقة تحت تهديد السلاح، أو حوادث السيارات، أو على الناحية النفسية، كالتعرض على نحو مستمر لسماع العديد من تجارب شخصية مؤلمة لأصحابها كالتحرش الجنسي للأطفال.
قد يواجه معظم الأشخاص الذين يمرون بأحداث صادمة صعوبة مؤقتة في التكيف والتأقلم، وقد تشمل الأعراض الكوابيس والقلق الشديد، بالإضافة إلى الأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها حول الحدث.
ما هي الصدمة النفسية؟
هي التعرض لتجربة خارج نطاق التجارب البشرية العادية، والمقصود بها أي تجارب يومية يمكنك مواجهتها والسيطرة عليها.
ولكن في حالة الصدمة تكون في حالة شديدة من الارتباك والشعور بفقدان تام للسيطرة، وعدم الأمان، وهو أمر محير جدًا للمخ البشري فيسعى دائمًا للرجوع لحالة الاتزان الأولى.
ولكن كما سنناقش لاحقًا أن ردة فعلك تجاه الصدمة هو ما يحدد ما إذا كنت ستعاني من اضطرابات لاحقًا أم لا، فمثلًا وجود رفقة تدعمك في خلال هذه المرحلة قد يخفف تأثيرها عليك على نحو كبير.
كيف تؤثر الصدمة النفسية على المخ؟
بعد التعرض للصدمة، يتغير مخك على المستوى العضوي، فهذا ليس مجرد ” ضرر” كما قد يعتقد الناس، ولكن عقلك يتكيف مع التجربة القائلة بأن العالم ليس آمنًا، وعليه اتخاذ تدابير لمساعدتك على تجنب المخاطر المستقبلية.
٤ تغييرات تحدث في المخ بعد التعرض للصدمة
- تصبح اللوزة (Amygdala) وهي المنطقة المسؤولة عن تحديد التهديدات والربط بين الذكريات والعواطف، أكثر حساسية ونشاطًا لتنبيه الشخص وجعله دائمًا في حالة تأهب للخطر، وأكثر عرضة للقلق من قبّل بعض المحفزات كالأصوات العالية، أو رؤية شخص غريب قد يذكرك بحادثتك.
- يتقلص حجم الحُصين (Hippocampus) وهو الجزء المسؤول عن معالجة الذكريات والمشاعر، نتيجة لذلك يصبح صعبًا التفريق بين الماضي والحاضر؛ وهذا هو سبب خوضهم للذكريات الأليمة وعيشها كما لو كانت تحدث مجددًا، مما يحفز اللوزة لإدراك الخطر وإعادة تشغيل دورة الصدمة مرة أخرى.
- تتقلص قشرة الفص الجبهي (Prefrontal cortex) وهو الجزء المسؤول عن التفكير المنطقي والتخطيط، مما يجعل تجاوز إشارة الخطر التي ترسلها اللوزة والحصين، صعبًا للغاية؛ وبالتالي تذكير أنفسنا بأن الخطر ليس حقيقيًا لن يكون مجديًا.
- استمرارية خروج هرمونات التوتر تجعل الجسم عالقًا في حالة التأهب القصوى حتى الشعور بالإرهاق التام.
أسباب حدوث اضطراب ما بعد الصدمة
أي حدث يجده الشخص مؤلمًا يمكن أن يتسبب في تطور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
أمثلة لبعض المواقف:
- حوادث الطرق الخطيرة.
- الاعتداءات الشخصية العنيفة، مثل الاعتداء الجنسي أو السرقة.
- التعرض للإيذاء أو المضايقة أو التنمر، بما في ذلك العنصرية والتمييز على أساس الجنس.
- مشاكل صحية خطيرة (لك أو لأحد أفراد عائلتك).
- حالات الولادة المتعسرة.
- التشخيص بحالة تهدد الحياة.
- القيام بعمل حيث ترى أو تسمع أشياء مؤلمة بشكل متكرر، مثل: خدمات الطوارئ أو القوات المسلحة.
يمكن أن تتطور أعراض الاضطراب فور تعرض شخص ما لحدث مُربك، أو يمكن أن تحدث بعد أسابيع أو شهور أو حتى سنوات.
تشير التقديرات إلى أن اضطراب ما بعد الصدمة يؤثر على حوالي 1 من كل 3 أشخاص لديهم تجربة مؤلمة، ولكن ليس من الواضح بالضبط سبب إصابة بعض الأشخاص بالحالة والبعض الآخر لا يصاب بها.
كيف تتعرف إلى أعراض اضطراب ما بعد الصدمة؟
تطور الأعراض يختلف كليًا من شخص لآخر حسب نوع الصدمة ومدى تكرار حدوثها، فقد تبدأ في الظهور خلال أول شهر أو بعد ثلاثة أشهر، ولكن يجب أن تستمر الأعراض لأكثر من شهر، وتكون شديدة بما يكفي لتجعلك غير قادر على القيام بمهامك اليومية مثل: التعامل في علاقاتك الأسرية أو في العمل. وأيضًا تكون غير مرتبطة بالأدوية أو تعاطي المخدرات أو أي مرض آخر.
غالبًا ما يعاني الأشخاص المصابون باضطراب ما بعد الصدمة من حالات متزامنة، مثل: الاكتئاب أو تعاطي المخدرات أو واحد أو أكثر من اضطرابات القلق (Anxiety Disorders).
بعد وقوع حدث خطير، من الطبيعي أن يكون لديك بعض الأعراض، على سبيل المثال: قد يشعر بعض الأشخاص بالانفصال عن التجربة، كما لو كانوا يراقبون الأشياء بدلًا من تجربتها.
معايير تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة
يجب أن يكون لدى الشخص البالغ الأعراض التالية لمدة شهر واحد على الأقل:
- واحدة على الأقل من الأفكار الدخيلة (Intrusive memories).
- عرض واحد من أعراض التجنب.
- ما لا يقل عن اثنين من أعراض الانفعال والتفاعل.
- ما لا يقل عن اثنين من الأعراض المتعلقة بالإدراك والمزاجية.
الأفكارالدخيلة (Intrusive memories)
- أن تشعر أنك تعيش التجربة مرة أخرى بمجرد تذكرها، بما في ذلك الأعراض الجسدية مثل تسارع ضربات القلب أو التعرق.
- وجود أحلام متكررة تتعلق بالحدث.
- وجود أفكار مربكة ومؤلمة.
- تظهر عليك أعراض إجهاد جسدية.
يمكن أن تؤدي الأفكار والمشاعر إلى ظهور هذه الأعراض، مثل: الكلمات أو الأشياء أو المواقف التي تذكرنا بالحدث.
التجنب (Avoidance)
تتمثل أعراض التجنب في:
- الابتعاد عن الأماكن أو الأحداث أو الأشياء التي تذكرك بالتجربة المؤلمة.
- تجنب الأفكار أو المشاعر المتعلقة بالصدمة.
- تغيير روتينك اليومي لتجنب أي مواقف أو أماكن تذكرك بالحدث.
أعراض الانفعال والتفاعل (Arousal and reactivity)
- تشعر بالذعر والرعب بسهولة.
- الشعور بالتوتر الدائم وأنك في وضع التأهب واليقظة لحدوث أي صدمة أخرى.
- تواجه صعوبة في التركيز.
- تواجه صعوبة في النوم (الأرق) أو البقاء نائمًا.
- الشعور بالتهيج والعدوانية الشديدة والغضب لأقل الأسباب، أو في حالات أخرى قد تشعر بالخدر التام لمشاعرك.
- الانخراط في سلوكيات متهورة ومدمرة (self-destructive).
- حدوث نوبات هلع (Panic attacks).
غالبًا ما تكون أعراض الانفعال ثابتة، يمكن أن تؤدي إلى الشعور بالتوتر والغضب وقد تتداخل مع أجزاء من الحياة اليومية، مثل النوم أو الأكل أو التركيز.
الأعراض المتعلقة بالإدراك والمزاجية (Cognition and mood)
الأعراض التالية قد تؤدي لانعزال الشخص تمامًا عن أهله وأصدقائه، لكونه في حالة شديدة من المعاناة والألم، وهي كما يلي:
- تواجه مشكلة في تذكر السمات الرئيسية للحدث.
- تُنشئ أفكارًا سلبية عن ذاتك وعن العالم، كمثل قولك: “أنا شخص سيء”، “لا يمكنني الوثوق بأحد”.
- وجود مشاعر مبالغ فيها من اللوم الموجهة نحو الذات أو الآخرين.
- وجود مشاعر سلبية مستمرة، مثل الخوف، أو الغضب، أو الذنب، أو الخجل.
- فقدان الاهتمام بالأنشطة الممتعة.
- الشعور بالعزلة الاجتماعية.
- تواجه صعوبة في الشعور بالمشاعر الإيجابية مثل: السعادة أو الرضا.
اضطراب ما بعد الصدمة وعلاقته بالاكتئاب
قد تزيد الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة أيضًا من خطر الإصابة بمشاكل الصحة العقلية الأخرى، مثل:
- الاكتئاب والقلق.
- مشاكل مع المخدرات أو تعاطي الكحول.
- اضطرابات الأكل.
- الأفكار والأفعال الانتحارية.
مرحلة علاج الصدمة النفسية
ليس من الضروري أن كل من تعرض لصدمة نفسية سيطور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. وأيضًا هناك حالات تعاني من الاضطراب قد تتعافى بعد مرور فترة والحصول على الدعم الكافي من عائلتهم وأصدقائهم، ولكن العديد من الأشخاص يحتاجون إلى علاج متخصص للتعافي من الصدمة النفسية التي يمكن أن تكون شديدة ومعيقة، فكلما أسرعنا في حصول الشخص على العلاج في وقت مبكر، زادت فرصته في التعافي.
يستخدم الأطباء النفسيون وغيرهم من المتخصصين في الصحة العقلية طرقًا فعالة (مثبتة بأبحاث) لمساعدة الأشخاص على التعافي، سنتناولها فيما يلي:
العلاج السلوكي المعرفي Cognitive Behavior Therapy
هو أحد أساليب العلاج النفسي التي أُثبتت فاعليتها على نحو كبير، فيما يلي سنتناول بعض أنواعه المستخدمة لعلاج ال PTSD:
- أسلوب المعالجة المعرفية (Cognitive Processing Therapy)
هو علاج سلوكي معرفي، أساسة هو جمع الأدلة وهو العلاج الأشهر في حالات اضطراب ما بعد الصدمة. يركز على تغيير المشاعر السلبية المؤلمة (مثل الخجل والشعور بالذنب وما إلى ذلك) والمعتقدات (مثل” لقد فشلت”؛ “العالم خطير”) بسبب الصدمة، وذلك عن طريق مساعدة المختصين للشخص على مواجهة ذكرياته المؤلمة والمشاعر المتعلقة بها.
- العلاج بالتعرض المطول (Prolonged exposure therapy)
يستخدم هذا العلاج تخيلًا متكررًا ومفصلًا للصدمة، أو التعرض التدريجي لـ “محفزات” الأعراض بطريقة آمنة ومُسيطر عليها، لمساعدة الشخص على مواجهة الخوف والضيق والسيطرة عليه وتعلم كيفية التأقلم، وعلى سبيل المثال، اٌستخدمت برامج الواقع الافتراضي لمساعدة بعض المحاربين القدماء المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، على إعادة تجربة ساحة المعركة بطريقة علاجية خاضعة للرقابة.
- إزالة التحسس وإعادة المعالجة عن طريق حركة العين (Eye movement desensitization and reprocessing)
علاج نفسي يركز على الصدمات ويُعطى على مدار ثلاثة أشهر تقريبًا، فهو يساعد الشخص على إعادة معالجة ذكرياته الخاصة بحيث تُجرب بطريقة مختلفة، وبعد أخذ تاريخ شامل ووضع خطة علاجية، يوجه المعالج أسئلة للمريض حول الذاكرة المؤلمة.
يُعاد إنشاء حركات العين المشابهة لتلك الموجودة في نوم حركة العين السريعة أثناء الجلسة، من خلال جعل المريض يراقب أصابع المعالج ذهابًا وإيابًا، أو من خلال مشاهدة شريط خفيف. تستمر حركات العين لفترة زمنية وجيزة ثم تتوقف. قد تتضمن التجارب أثناء الجلسة تغييرات في الأفكار والصور والمشاعر، و بعد الجلسات المتكررة، تميل الذاكرة إلى التغيير ويتم اختبارها بطريقة أقل سلبية.
- العلاج الجماعي (Group Therapy)
يشجع العلاج الجماعي الناجين من صدمات مماثلة على مشاركة تجاربهم وردود أفعالهم في بيئة مريحة ودون إطلاق أي أحكام.
العلاج بالأدوية
يمكن أن يساعد الدواء في السيطرة على أعراض الاضطراب، بالإضافة إلى ذلك، فإن تخفيف الأعراض الذي يوفره الدواء يسمح للعديد من الأشخاص بالمشاركة بشكل أكثر فعالية في العلاج النفسي.
تستخدم بعض مضادات الاكتئاب مثل: (مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، ومثبطات إعادة امتصاص السيروتونين والنورادرينالين) بشكل شائع لعلاج الأعراض الأساسية، وتستخدم إما بمفردها أو بالاشتراك مع العلاج النفسي أو العلاجات الأخرى.
العلاجات التكميلية والبديلة
توفر هذه الأساليب العلاج خارج عيادة الصحة العقلية التقليدية وتتطلب قدرًا أقل من الكلام والإفصاح عن العلاج النفسي، ومن الأمثلة على ذلك: الوخز بالإبر، واليوغا، والعلاج بمساعدة الحيوانات.
بالإضافة إلى العلاج، يجد العديد من الأشخاص المصابين باضطراب ما بعد الصدمة أنه من المفيد جدًا مشاركة تجاربهم ومشاعرهم مع الآخرين ممن لديهم تجارب مماثلة.
إن كنت قد شعرت بأي من الأعراض السابقة أو داهمك بعض الأفكار الانتحارية، فلا تجزع ولكن أولًا عليك أن تتواصل مع أحد أصدقائك أو شخص في عائلتك تشعر بالراحة إذا تحدثت بكل أفكارك أمامه، دعه يقدم لك الدعم وإن كنت تُفضل أن يصطحبك للطبيب النفسي أو أي من المختصين في المرة الأولى، فافعل ذلك.
المرض النفسي ليس وصمة عار لك أو لأي شخص، والإسراع في طلب الدعم هو أفضل حل للتعافي وضمان رجوعك لممارساتك اليومية بشكل طبيعي.